فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {قال نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عصونى} أي: استمرّوا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي، شكاهم إلى الله عز وجل، وأخبره بأنهم عصوه ولم يتبعوه، وهو أعلم بذلك {واتبعوا من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا} أي: اتبع الأصاغر رؤساءهم؛ وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلاّ ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة.
قرأ أهل المدينة، والشام، وعاصم، {وولده} بفتح الواو واللام.
وقرأ الباقون بسكون اللام، وهي لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعا، وقد تقدّم تحقيقه، ومعنى {واتبعوا}: أنهم استمرّوا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع {ومكرُواْ مكْرا كُبّارا} أي: مكرا كبيرا عظيما، يقال: كبير وكبار، وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب، وجميل وجمال وجمال.
قال المبرد: كبارا بالتشديد للمبالغة، ومثل {كبارا} قرأء لكثير القراءة، وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ** بالحسن قلب المسلم القراء

قرأ الجمهور: {كبارا} بالتشديد.
وقرأ ابن محيصن، وحميد، ومجاهد بالتخفيف.
قال أبو بكر: هو جمع كبير كأنه جعل مكرا مكان ذنوب أو أفاعيل، فلذلك وصفه بالجمع.
وقال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية.
واختلف في {مكرهم} هذا ما هو؟ فقيل: هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، وقيل: هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد حتى قال الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم.
وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد.
وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم لا تذرنّ إلهتكم وقيل: مكرهم كفرهم.
{وقالواْ لا تذرُنّ ءالِهتكُمْ} أي: لا تتركوا عبادة إلهتكم، وهي الأصنام والصور التي كانت لهم، ثم عبدتها العرب من بعدهم، وبهذا قال الجمهور.
{ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا} أي: لا تتركوا عبادة هذه.
قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة، ففعلوا، ثم نشأ قوم من بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوّروها على صورة أولئك القوم.
وقال عروة بن الزبير وغيره: إن هذه كانت أسماء لأولاد آدم، وكان ودّ أكبرهم.
قال الماوردي: فأما ودّ، فهو أوّل صنم معبود، سمي ودّا لودّهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل في قول ابن عباس، وعطاء، ومقاتل، وفيه يقول شاعرهم:
حياك ودّ فإنا لا يحل لنا ** لهو النساء وإن الدين قد غربا

وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة.
وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان؛ وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة، وعكرمة، وعطاء.
وقال الثعلبي: كان لكهلان بن سبأ، ثم توارثوه حتى صار في همدان، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني:
يريش الله في الدنيا ويبري ** ولا يبري يعوق ولا يريش

وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة، ومقاتل.
قرأ الجمهور: {ودّا} بفتح الواو.
وقرأ نافع بضمها.
قال الليث: ودّ بضم الواو صنم لقريش، وبفتحها صنم كان لقوم نوح، وبه سمي عمرو بن ودّ.
قال في الصحاح.
والودّ بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال.
وقرأ الجمهور: {ولا يغوث ويعقوق} بغير تنوين، فإن كانا عربيين، فالمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا عجميين، فللعجمة والعلمية.
وقرأ الأعمش: {ولا يغوثا ويعوقا} بالصرف.
قال ابن عطية: وذلك وهم.
ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الإلهة؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها {وقدْ أضلُّواْ كثِيرا} أي: أضلّ كبراؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الناس.
وقيل: الضمير راجع إلى الأصنام: أي: ضلّ بسببها كثير من الناس كقول إبراهيم: {ربّ إِنّهُنّ أضْللْن كثِيرا مّن الناس} [إبراهيم: 36] وأجرى عليهم ضمير من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل.
{ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ ضلالا} معطوف على {رّبّ إِنّهُمْ عصونى} ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم.
وقال أبو حيان: إنه معطوف على قد أضلوا، ومعنى: {إِلاّ ضلالا} إلاّ عذابا: كذا قال ابن بحر، واستدلّ على ذلك بقوله: {إِنّ المجرمين في ضلال وسُعُرٍ} [القمر: 47].
وقيل: إلاّ خسرانا.
وقيل: إلاّ فتنة بالمال والولد.
وقيل: الضياع.
وقيل: ضلالا في مكرهم.
{مّمّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} (ما) مزيدة للتأكيد، والمعنى: من خطيئاتهم، أي من أجلها وبسببها أغرقوا بالطوفان {فأُدْخِلُواْ نارا} عقب ذلك، وهي نار الآخرة.
وقيل: عذاب القبر.
قرأ الجمهور: {خطيئاتهم} على جمع السلامة، وقرأ أبو عمرو: {خطاياهم} على جمع التكسير، وقرأ الجحدري، وعمرو بن عبيد، والأعمش، وأبو حيوة، وأشهب العقيلي: {خطيئتهم} على الإفراد، قال الضحاك عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في حالة واحدة كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في جانب.
قرأ الجمهور: {أغرقوا} من أغرق، وقرأ زيد بن عليّ: {غرقوا} بالتشديد.
{فلمْ يجِدُواْ لهُمْ مّن دُونِ الله أنصارا} أي: لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم.
{وقال نُوحٌ رّبّ لا تذرْ على الأرض مِن الكافرين ديّارا} معطوف على {قال نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عصونى} لما أيس نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر دعا عليهم بالهلاك.
قال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحي إليه:
{إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36] فأجاب الله دعوته وأغرقهم.
وقال محمد بن كعب، ومقاتل، والربيع بن أنس، وابن زيد، وعطية: إنما قال هذا حين أخرج الله كلّ مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة.
وقيل: بأربعين.
قال قتادة: لم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب.
وقال الحسن، وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم، وعدلا فيهم، ولكن أهلك ذرّيتهم وأطفالهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب، ومعنى {ديّارا}: من يسكن الديار، وأصله ديوار على فيعال، من دار يدور، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، مثل القيام أصله قيوام، وقال القتيبي: أصله من الدار أي: نازل بالدار.
يقال: ما بالدار ديار أي: أحد.
وقيل الديار: صاحب الديار، والمعنى: لا تدع أحدا منهم إلاّ أهلكته {إِنّك إِن تذرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبادك} أي: إن تتركهم على الأرض يضلوا عبادك عن طريق الحقّ {ولا يلِدُواْ إِلاّ فاجِرا كفّارا} أي: إلاّ فاجرا بترك طاعتك كفارا لنعمتك أي: كثير الكفران لها، والمعنى: إلاّ من سيفجر ويكفر.
ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه والمؤمنين، فقال: {رّبّ اغفر لِى ولوالدى} وكانا مؤمنين، وأبوه لامك بن متوشلخ، كما تقدّم، وأمه سمحاء بنت أنوش، وقيل: أراد آدم وحواء.
وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجدّه.
وقرأ سعيد بن جبير: {ولوالدي} بكسر الدال على الإِفراد.
{ولِمن دخل بيْتِى} قال الضحاك، والكلبي: يعني مسجده، وقيل: منزله الذي هو ساكن فيه، وقيل: سفينته.
وقيل: لمن دخل في دينه، وانتصاب {مُؤْمِنا} على الحال، أي: لمن دخل بيتي متصفا بصفة الإيمان، فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة كامرأته وولده الذي قال: {سآوِى إلى جبلٍ يعْصِمُنِى مِن الماء} [هود: 43] ثم عمم الدعوة، فقال: {ولِلْمُؤْمِنِين والمؤمنات} أي: واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث.
ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين، فقال: {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ تبارا} أي: لا تزد المتصفين بالظلم إلاّ هلاكا، وخسرانا ودمارا وقد شمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة، كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا} قال: هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح.
وأخرج البخاري، وابن المنذر، وابن مردويه عنه قال: صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب: أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصابا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة نوح:
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{إِنّا أرْسلْنا نُوحا إِلى قوْمِهِ أنْ أنذِرْ قوْمك مِن قبْلِ أن يأْتِيهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} يعني عذاب الطوفان.
{قال يا قوْمِ إِنِّي لكُمْ نذِيرٌ مُّبِينٌ أنِ اعْبُدُوا اللّه واتّقُوهُ وأطِيعُونِ يغْفِرْ لكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي: يعفو عنها. و{منِ} إما مزيدة، أو تبعيضية. وهو ما وعدهم العقوبة عليها. وأما ما لم يعدهم العقوبة عليها، فقد تقدم عفوه لهم عنها. أو هو ما سبق، فإن الإسلام يجُبُّ ما قبله {ويُؤخِّركُمْ إِلى أجلٍ مُّسمّى} وهو أقصى ما قدره بشرط الإيمان. أي: فلا يعاجلكم بعذاب غرق أو نحوه.
{إِنّ أجل اللّهِ} أي: الذي كتبه على من كذب وتولى {إِذا جاء لا يُؤخّرُ لوْ كُنتُمْ تعْلمُون} أي: من أهل العلم والنظر لأنبتم.
{قال} أي: نوح بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل، في تلك المدد الطوال، {ربِّ إِنِّي دعوْتُ قوْمِي} أي: إلى التوحيد والعمل الصالح {ليْلا ونهارا} أي: دائما بلا فتور ولا توان.
{فلمْ يزِدْهُمْ دُعائِي إِلّا فِرارا} أي: من الحق الذي أرسلتني به.
{وإِنِّي كُلّما دعوْتُهُمْ} أي: إلى الإيمان {لِتغْفِر لهُمْ} أي: بسببه {جعلُوا أصابِعهُمْ فِي آذانِهِمْ} أي: سدوا مسامعهم من استماع الدعوة {واسْتغْشوْا ثِيابهُمْ} أي: تغطوا بها من كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في الدين {وأصرُّوا} أي: على الشر والكفر {واسْتكْبرُوا اسْتِكْبارا} أي: تعاظموا عن الإذعان للحق، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة.
{ثُمّ إِنِّي دعوْتُهُمْ جِهارا ثُمّ إِنِّي أعْلنتُ لهُمْ وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا} أي: دعوتهم مرة بعد مرة، على وجوه متنوعة، ما بين مجاهرة وإظهار بلا خفاء، وما بين إعلان وصياح بهم، وما بين إسرار فيما بيني وبينهم في خفاء. وهذه المراتب أقصى ما يمكن للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر.
{فقُلْتُ اسْتغْفِرُوا ربّكُمْ} أي: سلوه العفو عما سلف بالتوبة النصوح {إِنّهُ كان غفّارا} أي: لذنوب من تاب وأناب.
{يُرْسِلِ السّماء} أي: المطر {عليْكُم مِّدْرارا} أي: متتابعا.
{ويُمْدِدْكُمْ بِأمْوالٍ وبنِين} أي: فيكثرها عندكم {ويجْعل لّكُمْ جنّاتٍ ويجْعل لّكُمْ أنْهارا} أي: لسقيا جناتكم ومزارعكم.
{مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} أي: لا ترون له عظمة، إذ تشركون معه مالا يسمع ولا يبصر، فنفي الرجاء مراد به نفي لازمه، وهو الاعتقاد، مبالغة. وجوّز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف، أي: ما لكم لا تخافون عظمة الله. ومنه قوله:
إذا لسعتْهُ النّحْلُ لمْ يرْجُ لسْعها

قال الشهاب: وهو أظهر.
{وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} أي: تارات ترابا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة، وهكذا طورا بعد طور. أي: ومقتضى علم ذلك شدة الرهبة من بطشه وأخذه، لعظيم قدرته. هذا في أنفسكم. وهكذا يستدل على باهر عظمته، وقاهر قدرته من آياته الكونية. كما قال: {ألمْ تروْا كيْف خلق اللّهُ سبْع سماواتٍ طِباقا وجعل الْقمر فِيهِنّ نُورا وجعل الشّمْس سِراجا} أي: يزيل ظلمه الليل، وينير وجه الأرض.
{واللّهُ أنبتكُم مِّن الْأرْضِ نباتا} أي: أنشأكم منها.
{ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها ويُخْرِجُكُمْ إِخْراجا} أي: للحساب والجزاء.
{واللّهُ جعل لكُمُ الْأرْض بِساطا} أي: تستقرون عليها وتمتهدونها.
{لِتسْلُكُوا مِنْها سُبُلا فِجاجا} أي: طرقا مختلفة.
{قال نُوحٌ رّبِّ إِنّهُمْ عصوْنِي} أي: خالفوا أمري وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد، {واتّبعُوا من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلّا خسارا} أي: رؤساءهم المتبوعين، أهل المال والجاه، المعرضين عن الحق، الذين غرتهم أموالهم وأولادهم، فهلكوا بسببهما، وخسروا سعادة الدارين.
{ومكرُوا مكْرا كُبّارا} أي: متناهيا كبره، فإن الكبّار أكبر من الكبير.
{وقالوا لا تذرُنّ آلِهتكُمْ ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا} قال قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك.
قال: فكان ود لكلب بدومة الجندل، وكانت سواع لهزيل، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجرف، وكان يعوق لهمذان، وكان نسر لذي الكلاع من حمير.
وقال في رواية: والله ما عدا- أي: كل منها- خشبة أو طينة أو حجرا.
وقال ابن جرير: كان خبرهم- فيما بلغنا- من محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم؛ فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب، بعدُ: أما ود، فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غُطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمذان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسّخ العلمُ، عُبدت.
تنبيهات:
الأول: قال الرازيّ: في انتقالها عن قوم نوح إلى العرب إشكال، لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام، وكيف انتقلت إلى العرب. ولا يمكن أن يقال: إن نوحا عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها، لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها، فكيف يمكن أن يقال: إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها؟ انتهى كلامه.
ونحن نقول: إن جوابه بديهي، وهو أن انتقالها إلى العرب بواسطة نقل أحوال قوم نوح وأبنائهم وعوائدهم، على ألسنة الرحّل والسمّار، لأن سيرة القرن المتقدم في العصر المتأخر، وسنّة الخالف أن يؤرخ السالف. وجلي أن النفس أميل إلى الجهل منها إلى العلم، لاسيما إذ زين له المنكر بصفة تميل إليها، فتكون ألصق به. وهكذا كان بعد انقرأض العلم وحملته، أن حدث ما حدث من عبادتها، كما أشارت إليه رواية ابن عباس عند البخاري: حتى إذا هلك أولئك، وتنسّخ العلم، عبدت. وعجيب من الرازيّ أن لا يجد مخرجا من سؤاله، وهو على طرف الثُمامِ.
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): حكى الواقدي قال: كان وُد على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة الأسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة طائر. وهذا شاذ، والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها. انتهى.
الثالث: قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان): أول ما كاد به الشيطان عبّاد الأصنام، من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها، ليتذكروهم بها، كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال: {وقالوا لا تذرُنّ آلِهتكُمْ} الآية.
ثم قال: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم: فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد السرج»، و«نهى عن الصلاة إلى القبور»، و«سأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد»، و«نهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا»، وقال: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، و«أمر بتسوية القبور، وطمس التماثيل»، فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله، إما جهلا، وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا... إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقوله تعالى: {وقدْ أضلُّوا} أي: الرؤساء {كثِيرا} أي: خلقا كثيرا، أو الأصنام كقوله تعالى: {ربِّ إِنّهُنّ أضْللْن كثِيرا مِّن النّاسِ} [إبراهيم: 36]. {ولا تزِدِ الظّالِمِين إِلّا ضلالا} أي: خذلانا واستدراجا. وإنما دعا ذلك ليأسه من إيمانهم.
قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع ضميرهم، للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، وتعليل الدعاء عليهم به: {مِمّا خطِيئاتِهِمْ} أي: من أجلها {أُغْرِقُوا} أي: بالطوفان {فأُدْخِلُوا نارا} أي: أذيقوا به عذاب النار {فلمْ يجِدُوا لهُم مِّن دُونِ اللّهِ أنصارا}
قال الزمخشريّ: تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى: {أمْ لهُمْ آلِهةٌ تمْنعُهُم مِّن دُونِنا} [الأنبياء: 43].
وقال الرازيّ: لما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات، بطل القول بالوسائط.
{وقال نُوحٌ رّبِّ لا تذرْ على الْأرْضِ مِن الْكافِرِين ديّارا} أي: أحدا.
قال ابن جرير: يعني بـ: الديّار من يدور في الأرض فيذهب ويجيء فيها، وهو فيْعال من الدوران، ديوارا اجتمعت الياء والواو، فسبقت الياء الواو وهي ساكنة، وأدغمت الواو فيها، وصيرتا ياء مشددة. والعرب تقول: ما بها ديّار ولا عريب ولا دوِيّ ولا صافر ولا نافخ ضرمة.
{إِنّك إِن تذرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادك} عن طريق الحق.
{ولا يلِدُوا إِلّا فاجِرا كفّارا} قال أبو السعود: أي: إلا من سيفجر ويكفر، فوصفهم بما يصيرون إليه، وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه، من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن، منكر، وإنما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم بعد ما جربهم، واستقرأ أحوالهم قريبا من ألف سنة.
وقال بعضهم: ملّ نوح عليه السلام من دعوة قومه وضجر، واستولى عليه الغضب، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم، وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة، وتتربى بهيئاتها المظلمة، لا تقبل إلا نفسا مثلها، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه. انتهى.
{ربِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِديّ} قال ابن جرير: أي: ربِّ اعفُ عني، واستر عليّ ذنوبي وعلى والديّ، {ولِمن دخل بيْتِي مُؤْمِنا} قال ابن جرير: أي: لمن دخل مسجدي ومصلاي، مصليا مؤمنا بواجب فرضك عليه. وقيل: بيتي منزلي.
{ولِلْمُؤْمِنِين والْمُؤْمِناتِ ولا تزِدِ الظّالِمِين إِلّا تبارا} أي: هلاكا وخسارا. اهـ.